"يا عزيزي نهايتك اقتربت."
قالها طبيبي وعلى وجهه ابتسامة لو رآها غيري لاتهم الطبيب بالبرود وعدم المهنية ولكني أعرف طبيبي جيدا ونكاد نكون أصدقاء ولذلك أعلم أنها ابتسامة صديق يودع صديقه في آخر محطة من محطات العالم وعلى كل حال فأنا أقدر صراحته بشده.
"عليك أن تتخذ أمنية أخيرة واعمل على تحقيقها ولنجعلها نهاية سعيدة."
اختتم طبيبي كلماته بابتسامة قاربت زوايا فمه من أذنيه وأطلقتني أتجول في ذاكرتي بحثا عن تلك الأمنية فأمانينا غالبا تأتي من الماضي، تأتي من أشياء أسعدتنا أو أشياء لم يسعنا الوقت أو المال الحصول عليه، كم هي بائسه تلك الحياة. وصلت في ذاكرتي إلي ركن النور، إنه البحر، نعم، عندما كنت شابا تخيلت نهايتي في البحر، ليس حادث مركب ولكن أذهب إلى البحر وأسبح وأسبح حتى لا أرى شطئان حولي وأتخيل نفسي وقد تملكني التعب وأسلم نفسي للبحر عَلِّى أنام ويبتلعني البحر بلا أثر باق.
"أريد أن أرى البحر."
كان هذا هو المقدار الذي أستطيع مشاركته صديقي الطبيب فحتى أعز الأصدقاء لا نستطيع دائما أن نبوح لهم بكل شيء.
"فكرة رائعة."
كان يكفي أن أبدي رغبتي تلك لأجد نفسي أمام أجمل شاطيء في بلادي. فأنا لم أشقى طوال حياتي من أجل أن أحمل هم تدبيرات سفر مثل تلك فبعد سنين عملى أصبح لدي من يحمل تلك الهموم عني.
أصرت أن تأتي معي لترافقني في رحلتي تلك. ترفض دائما أن تقول أنها ترعاني وتستخدم لفظ ترافقني، كم هي لطيفة وهي تنسيني ضعفي وتغذي أنانيتي بأني قد أكون رفيقها. حاولت أن أتملص من رفقتها فلم أكن أريدها أن تشاهد نهايتي الغريبة تلك ولكن إصرارها كان لا مزعزع له وأسعدني قدومها.
كان الصباح رائعا، سماؤه صافية، رياحه قليله جعلت البحر يبدو مثل بساط أزرق بديع. فكرت كم أنا محظوظ لتكون نهايتي في هذا الوقت الممتاز وكأن كل شيء كان تم إعداده مسبقا وبعناية فائقة فليس دائما يتوافق التوقيت مع مشاريعنا وأحلامنا وكثيرا ما يدمرها.
"هل لك في القليل من السباحة؟" سألتني.
"بالطبع، وإلا فلما أتيت."
"إذن هي بنا."
كانت تحافظ على مسافة معقولة بيننا لتعطيني حريتي لتدعني أنغمس في تجربتي تلك. مشيت قليلا في المياه الدافئة ، ولما وصل الماء إلى فوق وسطي بقليل حاولت أن أطفو ولكني لم أستطع كان الهزال مستهلكا جسدي ولم يترك ما يكفي من النسيج الدهني لأطفو. لا طفو إذن لا سباحة. وهكذا دُمِّرت خطتي الأبدية في وضعي لمستي النهائية على وجودي.
رأتني مطرق الرأس في وسط المياه أداعب صفحة المياة بيداي.
"ما بك؟" تسألني وهي أعلم.
"لا أقدر على الطفو."
"يا لها من معضلة." قالتها وفي عينيها بريق أعرفه جيدا. "همممم، ماذا نحن فاعلون إذا."
لحظتها علمت أن لديها حل مشكلتي ولكنها أرادتني أن أجد الحل بنفسي. بحثت في عينيها عن الحل حتي وجدته ولكني حافظت على رباطة جأشي وأنا اقترح الحل مدعيا عدم معرفتي بمكرها الذيذ.
"لو كان معنا عوامة ربما أو شيئا من هذا القبيل."
"فكرة رائعة." قالت وقد علت نبرة صوتها وأشبكت أصابعها ببعضها كأنني وجدت حلا عبقريا. وقالت بعد أن نظرت في عيناي وقد أسدلت جفنيها قليلا في نظرة ملأها قليل من الفخر.
"أنا عملت حسابي. انتظر دقيقة."
ووثبت راكضة من المياه تجاه حاجياتنا على الشاطئ وعادت إلي وفي يديها ما فطنت أنه كتافات. دائما ما تعني بأدق التفاصيل وأوقات أظنها ترى المستقبل.
ظلت تنفخ الهواء فيها حتى امتلأ نصفها ومددت يديها وبينها الكتافات داعية اياي لأن أضع ذراعي داخلها.
"أريد أن أضعهما حول فخذاي. لم أجرب ذلك قط فهما لم يكونا هزيلان هكذا أبدا."
هزت رأسها موافقة وأسندت ذراعي حول عنقها وهي تضع لي الكتافات ولما انتهت أشارت لي بأن انطلق.
أطلقت عنقها حرا ومع أول محاولة لضرب المياه وجدت الكتافات تطفو بفخذاي ونصفي العلوي بدأ في الغرق. التقطني سريعا ولما عاد إلي إدراكي بعد لحطة الفزع تلك وجدتها تضحك من جوف قلبها إلي أعالي السماء.
طوقت عنقها باسما وقد بدأت تخلع الكتافات وتضعهم في ذراعاي. بعد أن انتهت نظرت لي مشجعة اياي على الانطلاق وفي عينيها ثقة بنجاحي. لما ابتعدت عنها طافت الكتافات ومعها ذراعاي ولكن أكتافي لم تقوى على حملي، لم أستطع أن أضم ذراعتي إلى جانب صدري حتي تطفو رأسي وأعلي صدري وإذا بي أغرق ببطئ عن المرة الأولى وبلا أي فزع أو حرج أو حتى ضحك كان فقط الشعور بنفاذ الحيلة.
"لا يهم كل ذلك، ستطفو." قالتها وفي صوتها يقين فَقَدْتُه من زمن بعيد وخلعت عن ذراعاي الكتافات وألقتهم بعيدا تجاه الشاطئ.
حملتني كما يحمل العريس عروسه وقالت لى أن أطلق نفسي للماء وأسترخي تماما وكانت كأنها تعلمني السباحة من أول وجديد. اتبعت كلماتها واستلقيت على ظهري في الماء وذراعاها تحت كتفي وتحت ركبتاي تمنعاني من اكمال الرحلة إلى قاع البحر.
أغمضت عيناي وظللت هكذا بعضا من الوقت تذكرت فيه لحظات استلقائي على سطح الماء وكم كانت تنسيني جميع همومي.
فتحت عيناي على ابتسامتها الصافية وتعجبت. ما الذي يجعلها سعيدة هكذا؟ لو كنت مكانها غالبا لم أكن لاشعر بثُمن سعادتها تلك. كانت سعادتها تبدو وكأنها نابعة من سعادتي. تلك الصفة التي لا تجدها إلا في الفتيات والنساء. غريزة الأم تلك التي طالما كرهتها في صديقاتي، لم أكن أطيق اهتمامهن الزائد بي وباحتياجاتي ومأكلي وملبسي وبأدق تفاصيل حياتي. ها أنا الآن في عرض تلك العاطفة والتي من دونها لما تحققت آخر أمانيّ أو ربما تحققت ولكنها قطعا لما كنت استمتعت بها هكذا.
رددت على ابتسامتها بابتسامة ضعيفة فعدلت من وضعي وأجلستني على ساقها وذراعي تحوط عنقها أعلم أنها سألتني في نفسها إذا كنت سعيدا فرددت على سؤالها بابتسامة تؤكد على شعوري.
جلسنا هكذا قليلا وإذا بها تدندن نغمات أغنية ربما كانت لوردة ووسط اندماجها في دندناتها وانطلاق بصرها الشارد عبر الأفق أخذت ترفع ساقها قليلا ثم تهبطها ويين صعود ساقها وهبوطها كنت أطفو ووقتها فقط علمت أني كنت على الدوام مخطئا وأن هكذا فقط تكون النهاية السعيدة.
